RSS

خيبة الأمل وجرح الكبرياء

29 مارس

خيبة الأمل وجرح الكبرياء

أحس بأن صديقه بدأ يتغير عليه، وكانت الهمسات تنقل إليه عن سيف الدولة بأنه غير راض، وعنه إلى سيف الدولة بأشياء لا ترضي الأمير. وبدأت المسافة تتسع بين الشاعر والأمير، ولربما كان هذا الاتساع مصطنعاً إلا أنه اتخذ صورة في ذهن كل منهما. وظهرت منه مواقف حادة مع حاشية الأمير، وأخذت الشكوى تصل إلى سيف الدولة منه حتى بدأ يشعر بأن فردوسه الذي لاح له بريقه عند سيف الدولة لم يحقق السعادة التي نشدها. وأصابته خيبة الأمل لاعتداء ابن خالويه عليه بحضور سيف الدولة حيث رمى دواة الحبر على المتنبي في بلاط سيف الدولة، فلم ينتصف له سيف الدولة، ولم يثأر له الأمير، وأحس بجرح لكرامته، لم يستطع أن يحتمل، فعزم على مغادرته، ولم يستطع أن يجرح كبرياءه بتراجعه، وإنما أراد أن يمضي بعزمه. فكانت مواقف العتاب الصريح والفراق، وكان آخر ما أنشده إياه ميميته في سنة 345 هـ ومنها : (لا تطلبن كريماً بعد رؤيته) . بعد تسع سنوات ونصف في بلاط سيف الدولة جفاه الأمير وزادت جفوته له بفضل كارهي المتنبي ولأسباب غير معروفة قال البعض أنها تتعلق بحب المتنبي المزعوم لخولة شقيقة سيف الدولة التي رثاها المتنبي في قصيدة ذكر فيها حسن مبسمها، وكان هذا مما لا يليق عند رثاء بنات الملوك. إنكسرت العلاقة الوثيقة التي كانت تربط سيف الدولة بالمتنبي.

فارق أبو الطيب سيف الدولة وهو غير كاره له، وإنما كره الجو الذي ملأه حساده ومنافسوه من حاشية الأمير. فأوغروا قلب الأمير، فجعل الشاعر يحس بأن هوة بينه وبين صديقة يملؤها الحسد والكيد، وجعله يشعر بأنه لو أقام هنا فلربما تعرض للموت أو تعرضت كبرياؤه للضيم. فغادر حلب، وهو يكن لأميرها الحب، لذا كان قد عاتبه وبقي يذكره بالعتاب، ولم يقف منه موقف الساخط المعادي، وبقيت الصلة بينهما بالرسائل التي تبادلاها حين عاد أبو الطيب إلى الكوفة وبعد ترحاله في بلاد عديده بقي سيف الدولةفي خاطر ووجدان المتنبي.

فكأنه جعل كافورا الموت الشافي والمنايا التي تتمنى ومع هذا فقد كان كافور حذراً، فلم ينل المتنبي منه مطلبه، بل إن وشاة المتنبي كثروا عنده، فهجاهم المتنبي، وهجا كافورومصر هجاء مرا ومما نسب إلى المتنبي في هجاء كافور:

لا تشتري العبد إلا والعصا معه   إن العبيد لأنجــاس مناكــيد
نامت نواطير مصر عن ثعالبها   وقد بشمن وما تفنى العناقيد
لا يقبض الموت نفسا من نفوسهم   إلا وفي يده من نتنها عود
من علم الأسود المخصي مكرمة   أقومه البيض أم آباؤه السود
أم أذنه في يد النخاس دامية   أم قدره وهو بالفلسين مردود

و استقر في عزم أن يغادر مصر بعد أن لم ينل مطلبه، فغادرها في يوم عيد، وقال يومها قصيدته الشهيرة التي ضمنها ما بنفسه من مرارة على كافور وحاشيته، والتي كان مطلعها:

 

عيد بأية حال عدت يا عيد   بما مضى أم لأمر فيك تجديد
أما الأحبة فالبيداء دونهم   فليت دونك بيدا دونها بيد

ويقول فيها أيضا:

إذا أردت كميت اللون صافية   وجدتها وحبيب النفس مفقود
ماذا لقيت من الدنيا وأعجبه   أني لما أنا شاكٍ مِنه محسُود

وفي القصيدة هجوم شرس على كافور وأهل مصر بما وجد منهم من إهانة له وحط منزلته وطعنا في شخصيته ثم إنه بعد مغادرته لمصر قال قصيدةً يصف بها منازل طريقه وكيف أنه قام بقطع القفار والأودية المهجورة التي لم يسلكها أحد قال في مطلعها:

ألا كل ماشية الخيزلى   فدى كل ماشية الهيدبى
وكل ناجة بجاوية   خنوف وما بي حسن المشى

فذكر في قصائده بعض المدن والمواضع الواقعة ضمن الحدود الإدارية لدُومة الجندل، والتي منها:

طُردت من مصر أيديها بأرجلها   حتى مرقن بنا من جوشٍ والعلم

وقال أيضاً:

وجابت بُسيطة جوب الرَّداء   بين النَّعَام وبين المها
إلى عُقدة الجوف حتى شَفَت   بماء الجِرَأوِيَ بعض الصدا
ولاحَ لها صورٌ والصَّبَاح   ولاحَ الشَّغور لها والضَّحَا
فَأَمسَكَ صَحبي بِأَكوارِهِم   وَقَد قَصَدَ الضِحكُ فيهِم وَجارا

وقال أيضا في معاناته من الزمن:

صحب الناس قبلنا ذا الزمان   وعاناهم من شأنه ما عنانـا
وتولو بغصة كلهم منه   وإن سـر بعضـهم احيــانـا
رُبما تُحسِنُ الصّنيع لَيَالِيـ   ـهِ ولكِن تكدرُ الإحْسَانا
وكأنا لم يرض فينا بريب الـ   دهر حتى اعانه من اعانـا
كلما انبت الزمان قناة   ركب المرء في القناة سنانـا
ومراد النفوس اصغر من أن   نتـعـادى فيه وأن نتـفـانـى
غير أن الفتى يلاقي المنــــايـــا   كالـلــحات ولا يـلاقي الهوان
ولو أن الحياة تبقى لحي   لــعددنا أضــلـنا الشجــعـنــا
وإذا لم يكن من المــوت بد   فمن العجز أن تكون جبانا
ولو أن الحياة تبقى لحي   لــعددنا أضــلـنا الشجــعـنــا
كل مالم يكن من الصعب في الأنـــ   ــفس سهل فيها إذا هو كانا

وقال أيضاً:

بُسيطة مهلاً سُقيت القطارا   تركت عيون عبيدي حيارا
فظنوا النعام عليك النخيل   وظنوا الصوار عليك المنارا
فأمسك صحبي بأكوارهم   وقد قصد الضحك منهم وجارا

 

وقال يصف ناقته:

ضربت بها التيه ضرب القمار   إما لهذا وإما لذا
لإذا فزعت قدمتها الجياد   وبيض السيوف وسمر القنا

وهي قصيدة يميل فيها المتنبي إلى حد ما إلى الغرابة في الألفاظ ولعله يرمي بها إلى مساواتها بطريقه. لم يكن سيف الدولة وكافور هما من اللذان مدحهما المتنبي فقط، فقد قصد امراء الشام والعراق وفارس. وبعد عودته إلى الكوفة، زار بلاد فارس، فمر بأرجان، ومدح فيها ابن العميد، وكانت له معه مساجلات. ومدح عضد الدولة ابن بويه الديلمي في شيراز وذالك بعد فراره من مصر إلى الكوفة ليلة عيد النحر سنة 370 هـ.

 
 

أضف تعليق